الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {فاستفتهم} فاستخبر مُشركي مكَّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} أي أقوى خِلقةً وأمتنُ بنيةً أو أصعبُ خَلْقًا وأشقُّ إيجادًا {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من الملائكةِ والسَّماءِ والأرضِ وما بينهما. والمشارقُ والكواكبُ والشُّهبُ الثَّواقبُ ومن لتغليبِ العُقلاءِ على غيرِهم ويدلُّ عليه إطلاقُه. ومجيئُه بعد ذلك لاسيما قراءةُ مَن قرأ {أمْ مَن عددنا} وقولُه تعالى: {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} فإنَّه الفارقُ بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم من الأممِ كعادٍ وثمود، ولأنَّ المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم. والأمرُ فيه بالإضافةِ إليهم وإلى مَن قبلهم سواء. وقُرئ {لازمٍ} و{لاتبٍ} {بَلْ عَجِبْتَ} أي من قُدرة الله تعالى على هذه الخلائقِ العظيمة وإنكارِهم للبعث {وَيَسْخُرُونَ} من تعجُّبكَ وتقريرك للبعث. وقُرئ بضمِّ التَّاءِ، على معنى أنَّه بلغ كمالُ قدرتي وكثرةُ مخلوقاتي إليَّ حيث عجبتُ منها، وهؤلاءِ لجهلهم يسخرونَ منها. أو عجبتُ من أنْ ينكرُوا البعثَ ممَّن هذه أفاعيلُه ويسخرُوا ممَّن يجوزُه. والعجبُ من اللَّهِ تعالى إمَّا على الفرضِ والتَّخييلِ، أو على معنى الاستعظامِ اللاَّزمِ له فإنَّه رَوعةٌ تعتري الإنسانَ عند استعظامِ الشَّيءِ. وقيل إنَّه مقدَّرٌ بالقولِ أي قُل يا محمدُ بل عجبتُ {وَإِذَا ذُكّرُواْ} أي ودأبُهم المستمرُّ أنَّهم إذا وُعظوا بشيءٍ من المواعظِ.{لاَ يَذْكُرُونَ} لا يتَّعظون، وإذَا ذُكر لهم ما يدلُّ على صحَّةِ البعثِ لا ينتفعُون به لغايةِ بلادتهم وقصورِ فكرهم {وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} أي معجزةً تدلُّ على صدقِ القائلِ به {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السُّخريةِ، ويقُولون إنَّه سحرٌ أو يستدعي بعضُهم من بعضٍ أنْ يسخرَ منها {وَقَالُواْ إِن هذا} أي ما يَرونه من الآياتِ الباهرةِ {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريَّتهُ {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما} أي كان بعضُ أجزائِنا تُرابًا وبعضُها عظامًا. وتقديمُ التُّرابِ لأنَّه منقلبٌ من الأجزاءِ الباديةِ. والعاملُ في إذا ما دلَّ عليه مبعوثونَ في قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي نُبعث لا نفسه لأنَّ دونَه خطوبًا لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكفى في المنعِ. وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعث بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة وكذا تكريرُ الهمزةِ في أئنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في ذلك وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللاَّمِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ كما يُوهمه ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائها الصَّدارة كما في مثلِ قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} على رأي الجمهورِ، فإنَّ المعنى عندَهُم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التَّعقيبِ كما هُو المشهورُ. وقُرئ بطرحِ الهمزةِ الأُولى وبطرحِ الثَّانيةِ فَقَطْ.{أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون} رُفع على الابتداءِ، وخبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي وآباؤنا الأوَّلُون أيضًا مبعوثُون. وقيل عطفٌ على محلِّ إنَّ واسمِها، وقيل على الضَّميرِ في مبعوثُون للفصلِ بهمزةِ الإنكارِ الجاريةِ مجرى حرفِ النَّفيِ في قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} وأيًّا ما كانَ فمرادُهم زيادةُ الاستبعادِ بناءً على أنَّهم أقدمُ فبعثهم أبعدُ على زعمهم. وقُرئ {أو آباؤُنا}.{قُلْ} تبكيتًا لهم {نِعْمَ} والخطابُ في قوله تعالى: {وَأَنتُمْ داخرون} لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ. والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاَّءُ. وقُرئ {نَعِم} بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه.{فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ واحدة} هي إمَّا ضميرٌ مبهمٌ يفسِّرهُ خبرُه، أو ضميرُ البعثةِ. والجملةُ جوابُ شرطٍ مضمرٍ أو تعليلٌ لنهيَ مقدَّرٍ أي إذا كانَ كذلك فإنَّما هي الخ. أو لا تستصعبُوه فإنَّما هي الخ. والزَّجرةُ الصَّيحةُ من زجرَ الرَّاعي غنمه إذا صاحَ عليها وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ {فَإِذَا هُم} قائمونَ من مراقدهم أحياءً {يَنظَرُونَ} يُبصرون كما كانُوا أو ينتظرون ما يُفعل بهم {وَقَالُواْ} أي المبعوثونَ. وصيغةُ الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُقِ والتَّقررِ {ياويلنا} أي هلاكنا احضُر فهذا أوانُ حضورِك. وقولُه تعالى: {هذا يَوْمُ الدين} تعليلٌ لدعائهم الويلِ بطريق الاستئنافِ أي اليوم الذي نُجازى فيه بأعمالنا، وإنَّما علموا ذلك لأنَّهم كانوا يسمعون في الدُّنيا أنَّهم يُبعثون ويُحاسبون ويُجزَون بأعمالهم فلمَّا شاهدوا البعثَ أيقنُوا بما بعدَه أيضًا. وقولُه تعالى: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} كلامُ الملائكةِ جوابًا لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ. وقيل هُو أيضًا من كلامِ بعضِهم لبعضٍ، والفصلُ القضاءُ أو الفرقُ بين فِرقِ الهُدى والضَّلالِ. اهـ..قال الألوسي: {فاستفتهم} أي فاستخبرهم، وأصل الاستفتاء الاستخبار عن أمر حدث، ومنه الفتى لحداثة سنه، والضمير لمشركي مكة، قيل: والآية نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد، والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقًا وأشق إيجادًا {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب، وتعريف الموصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والاستفهام تقريري، وجوز أن يكون انكاريًا، وفي مصحف عبد الله {أَم مَّنْ} وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها.وقرأ الأعمش {إِلَيْهِ مِن} بتخفيف الميم دون أم جعله استفهامًا ثانيًا تقريريًا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير وجماعة عن ابن عباس، وفي رواية أخرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة:قيل: والمراد ملتزق بعضه ببعض، وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن جيد التخمير، وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه يلزق باليد إذا مس بهاد وقال الطبري: خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طينًا لازبًا يلزم ما جاوره، واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم، وقد قرئ {لازم} بالميم بدل الباء و{لاتب} بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد.وحكي في البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد، وفي رواية أنه قال: اللازب الجيد.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: لازب أي لازم منتن، ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى: {مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: اللازب والحماء والطين واحد كان أوله ترابًا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينًا لازبًا فخلق الله تعالى منه آدم عليه السلام.وأيًا ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات 16] ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعثث.{بَلْ عَجِبْتَ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله و{بل} للاضراب إما عن مقدر يشعر به {فاستفتهم} [الصافات 11] الخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو الحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها {وَيَسْخُرُونَ} أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسموات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السموات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم: فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنهكم لستم أشد خلقًا منهم فوضع موضعه {فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} [الصافات 11] وقوله تعالى: {إِنَّا خلقناهم} [الصافات 11] تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقًا أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد.وأيده بدلالة الإضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الاضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الاهلاك كسالف الأمم؛ وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك، وكم من ذلك في الكتاب العزيز، وأما الاضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه {وَيَسْخُرُونَ} وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل.وقرأ حمزة والكسائي وابن سعدان وابن مقسم {عَجِبْتَ} بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود والنخعي وابن وثاب وطلحة وشقيق والأعمش.وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال: إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم، وانكار هذا القاضي مما أفتى بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة، وقد جاء أيضًا في الخبر عجب ربكم من إلكم وقنوطكم.وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز عليّ لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لانكاره لحالهم يعدها أمرًا غريبًا ثم يثبت له سبحانه العجب منها، فعلى الأول تكون الاستعارة تخييلية تمثيلية كما في قولهم: قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحن لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازًا مرسلًا فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيمًا أي بالغا الغاية في الحسن أو القبح، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح، وليس استعظام الشيء مسبوقًا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال: إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال.وقال أبو حيان: يؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبًا، وقال مكي وعلي بن سليمان: ضمير {عَجِبْتَ} للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قب بل عجبت، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت، والذي يقتضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل: إذ ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون.{وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ} أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم، واستفادة الاستمرار من مقام الذم، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده، وقرأ ابن حبيش {ذَكَرُواْ} بتخفيف الكاف.{وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر {يَسْتَسْخِرُونَ} أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها، روي أن ركانة رجلًا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنمًا له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن بي؟ قال: نعم فصرعه ثلاثًا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فاقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي اضرابه.
|