الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن العربي: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجك إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ} فيهَا ثَمَان عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: في سَبَب نُزُولهَا: وَفيه خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبيّه، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ؛ قَالَهُ مُقَاتلُ بْنُ حَيَّانَ.الثَّاني: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخرَة؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بخَزَائن الْأَرْض بمَفَاتحهَا، وَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبيًّا مَلَكًا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبيًّا.فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إلَى جبْريلَ كَالْمُسْتَشير، فَأَشَارَ إلَيْه أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت: بَلْ نَبيًّا عَبْدًا، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا.فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَحْيني مسْكينًا وَأَمتْني مسْكينًا وَاحْشُرْني في زُمْرَة الْمَسَاكين».فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بتَخْيير أَزْوَاجه ليَكُنَّ عَلَى مثَاله؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسم.الثَّالثُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ طَالَبْنَهُ بمَا لَا يَسْتَطيعُ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا، فَلَمْ يَقْدرْ عَلَيْه.وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانيَّةً.وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا.وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبيبَةَ ثَوْبًا سُحُوليًّا.وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بنْتُ زَمْعَةَ قَطيفَةً خَيْبَريَّةً.وَكُلُّ وَاحدَةٍ منْهُنَّ طَلَبَتْ منْهُ شَيْئًا، إلَّا عَائشَةَ؛ فَأَمَرَ بتَخْييرهنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَهَذَا بهَذَا اللَّفْظ بَاطلٌ.وَالصَّحيحُ مَا في صَحيح مُسْلمٍ عَنْ جَابر بْن عَبْد اللَّه قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذنُ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عنْدَ بَابه لَمْ يَأْذَنْ لأَحَدٍ منْهُمْ قَالَ: فَأَذنَ لأَبي بَكْرٍ فَدَخَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذنَ لَهُ بالدُّخُول فَوَجَدَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ جَالسًا وَحَوْلَهُ نسَاؤُهُ وَاجمًا سَاكتًا قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحكُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.فَقَالَ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّه بنْتُ خَارجَةَ سَأَلَتْني النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا فَضَحكَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَقَالَ: هُنَّ حَوْلي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَني النَّفَقَةَ.فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا كلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عنْدَهُ.ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا ثُمَّ أُنْزلَتْ عَلَيْه آيَةُ التَّخْيير: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجك إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا}.فَقَدْ خَرَجَ منْ هَذَا الْحَديث الصَّحيح أَنَّ عَائشَةَ طَلَبَتْهُ أَيْضًا.فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْل النَّقَّاش.الرَّابعُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُريدُ مَا تُريدُ النّسَاءُ منْ الْحُليّ وَالثّيَاب، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ: لَوْ كُنَّا عنْدَ غَيْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لَكَانَ لَنَا حُليٌّ وَثيَابٌ وَشَأْنٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْييرَهُنَّ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ.الْخَامسُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ في الْغَيْرَة عَلَيْه، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهنَّ شَهْرًا، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ عُبَيْد اللَّه بْن أَبي ثَوْرٍ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَريصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب عَنْ الْمَرْأَتَيْن منْ أَزْوَاج النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ اللَّتَيْن فيهمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَمَكَثْت سَنَةً مَا أَسْتَطيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ، وَحَجَجْت مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بمَرّ الظَّهْرَان عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك، فَقَالَ: أَدْركْني بإدَاوَةٍ منْ مَاءٍ، فَأَتَيْته بهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بالْإدَاوَة، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ، ثُمَّ أَتَاني، فَسَكَبْت عَلَى يَده الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْت: يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ؛ مَنْ الْمَرْأَتَان منْ أَزْوَاج النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ اللَّتَان قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَإنّي أُريدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطيعُ هَيْبَةً لَك.فَقَالَ عُمَرُ: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عنْدي فيه علْمًا، فَسَلْني عَنْهُ، فَإنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك.قَالَ الزُّهْريُّ: كَرهَ وَاَللَّه مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ.قَالَ: هُمَا وَاَللَّه عَائشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَديثَ.قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلبُ النّسَاءَ فَقَدمْنَا الْمَدينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلبُهُمْ نسَاؤُهُمْ فَطَفقَ نسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ منْ نسَائهمْ.قَالَ: وَكَانَ مَنْزلي في بَني أُمَيَّةَ بْن زَيْدٍ بالْعَوَالي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتي وَذَلكَ أَنّي كُنْت في أَمْرٍ أُريدُهُ قَالَتْ لي: لَوْ صَنَعْت كَذَا.فَقُلْت لَهَا: مَالَك أَنْت وَلهَذَا وَتَكَلُّفُك في أَمْرٍ أُريدُهُ فَإذَا هيَ تُرَاجعُني فَقَالَتْ: مَا تُنْكرُ أَنْ أُرَاجعَك فَوَاَللَّه إنَّ أَزْوَاجَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ ليُرَاجعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْل.فَأَخَذْت ردَائي وَشَدَدْت عَلَيَّ ثيَابي فَانْطَلَقْت وَذَلكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزلَ الْحجَابُ فَدَخَلْت عَلَى عَائشَةَ فَقُلْت لَهَا: يَا بنْتَ أَبي بَكْرٍ قَدْ بَلَغَ منْ شَأْنك أَنْ تُؤْذي رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: مَالي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّاب عَلَيْك بعَيْبَتك.فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت: قَدْ بَلَغَ منْ شَأْنك أَنْ تُؤْذي رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَتُرَاجعينَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَتْ: نَعَمْ.فَقُلْت: أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْل فَقَالَتْ: نَعَمْ.قُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلكَ منْكُنَّ وَخَسرَتْ أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لغَضَب رَسُول اللَّه فَإذَا هيَ قَدْ هَلَكَتْ لَا تُرَاجعي رَسُولَ اللَّه وَلَا تَسْأَليه شَيْئًا وَاسْأَليني مَا بَدَا لَك وَلَا يَغُرَّنَّك أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذه الَّتي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إيَّاهَا؛ هيَ أَوْسَمُ منْك وَأَحَبُّ إلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ منْك يُريدُ عَائشَةَ.لَقَدْ عَلمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لَا يُحبُّك وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاء.وَدَخَلْت عَلَى أُمّ سَلَمَةَ لقَرَابَتي منْهَا فَكَلَّمْتهَا فَقَالَتْ لي: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّاب قَدْ دَخَلْت في كُلّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَزْوَاجه؛ وَإنَّهُ كَسَرَني ذَلكَ عَنْ بَعْض مَا كُنْت أَجدُ.وَكَانَ لي جَارٌ منْ الْأَنْصَار فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ في النُّزُول إلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَيَنْزلُ يَوْمًا وَأَنْزلُ يَوْمًا وَيَأْتيني بخَبَر الْوَحْي وَآتيه بمثْل ذَلكَ وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا فَنَزَلَ صَاحبي ثُمَّ أَتَاني عَشيًّا فَضَرَبَ بَابي وَنَادَاني فَخَرَجْت إلَيْه فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظيمٌ.فَقُلْت: مَاذَا؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْظَمُ منْ ذَلكَ.فَقُلْت: مَا تَقُولُ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ نسَاءَهُ؟ فَقُلْت: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسرَتْ قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشكُ أَنْ يَكُونَ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثيَابي ثُمَّ نَزَلْت فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ وَهيَ تَبْكي.فَقُلْت: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْري هُوَ هَذَا مُعْتَزلٌ في هَذه الْمَشْرُبَة.فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعدًا عَلَى أُسْكُفَّة الْبَاب مُدْليًا رجْلَيْه عَلَى نَقيرٍ منْ خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْه رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَيَنْحَدرُ.فَقُلْت: اسْتَأْذنْ لعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ.فَانْطَلَقْت حَتَّى أَتَيْت الْمنْبَرَ فَإذَا عنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْت قَليلًا ثُمَّ غَلَبَني مَا أَجدُ فَأَتَيْت الْغُلَامَ فَقُلْت: اسْتَأْذنْ لعُمَرَ.فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمنْبَر ثُمَّ غَلَبَني مَا أَجدُ فَأَتَيْت الْغُلَامَ فَقُلْت: اسْتَأْذنْ لعُمَرَ فَإنّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنّي جئْت منْ أَجْل حَفْصَةَ وَاَللَّه لَئنْ أَمَرَني أَنْ أَضْربَ عُنُقَهَا لَأَضْربَنَّ عُنُقَهَا.قَالَ: وَرَفَعْت صَوْتي فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ فَوَلَّيْت مُدْبرًا فَإذَا الْغُلَامُ يَدْعُوني قَالَ: اُدْخُلْ فَقَدْ أَذنَ لَك.فَدَخَلْت فَسَلَّمْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَإذَا هُوَ مُتَّكئٌ عَلَى رمَال حَصيرٍ قَدْ أَثَّرَ في جَنْبه مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسه وسَادَةٌ منْ أَدَمٍ حَشْوُهَا ليفٌ.فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّه أَطَلَّقْت نسَاءَك؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك منْ أَمْر النّسَاء؟ فَإنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائكَتَهُ وَجبْريلَ وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمنينَ.قَالَ: وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ اللَّهَ بكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدّقُ قَوْلي الَّذي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذه الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيير: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا منْكُنَّ مُسْلمَاتٍ مُؤْمنَاتٍ}.فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ: لَا.فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّه، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلبُ النّسَاءَ، فَقَدمْنَا الْمَدينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلبُهُمْ نسَاؤُهُمْ، فَطَفقَ نسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ منْ نسَائهمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتي يَوْمًا، فَإذَا هيَ تُرَاجعُني، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجعَني.قَالَتْ: مَا تُنْكرُ أَنْ أُرَاجعَك.فَوَاَللَّه إنَّ أَزْوَاجَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لَيُرَاجعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْل.فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلكَ منْهُنَّ وَخَسرَ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لغَضَب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَإذَا هيَ قَدْ هَلَكَتْ.فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّه، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت: لَا يَغُرَّنَّك أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ منْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى؛ وَإنّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ حَديثَ أُمّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهه وَكَشَّرَ، وَكَانَ منْ أَحْسَن النَّاس ثَغْرًا.فَقُلْت: أَسْتَأْنسُ يَا رَسُولَ اللَّه عَلَيْك، قَالَ: نَعَمْ.فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَري في الْبَيْت، فَوَاَللَّه مَا رَأَيْت فيه شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً، وَإلَّا قَبْضَةً منْ شَعيرٍ نَحْو الصَّاع، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ في نَاحيَة الْغُرْفَة وَإذَا أَفيقٌ مُعَلَّقٌ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكيك يَا ابْنَ الْخَطَّاب؟ فَقُلْت: وَمَا لي لَا أَبْكي، وَهَذَا الْحَصيرُ قَدْ أَثَّرَ في جَنْبك، وَهَذه خَزَائنُك لَا أَرَى فيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى، وَذَلكَ كسْرَى وَقَيْصَرُ في الْأَنْهَار وَالثّمَار، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّه وَصَفْوَتُهُ؟ وَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسّعَ لأُمَّتك، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارسَ وَالرُّوم، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.فَاسْتَوَى جَالسًا، وَقَالَ: أَفي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، أُولَئكَ قَوْمٌ عُجّلَتْ لَهُمْ طَيّبَاتُهُمْ في الْحَيَاة الدُّنْيَا.فَقُلْت: اسْتَغْفرْ لي يَا رَسُولَ اللَّه.وَإنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ في أَنْ يُخْبرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلّقْ نسَاءَهُ، فَأَذنَ لَهُ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَاب الْمَسْجد يُنَادي: لَمْ يُطَلّقْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ نسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذه الْآيَةُ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ منْ الْأَمْن أَوْ الْخَوْف أَذَاعُوا به وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُول وَإلَى أُولي الْأَمْر منْهُمْ لَعَلمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبطُونَهُ منْهُمْ} فَكُنْت أَنَا الَّذي اسْتَنْبَطْت ذَلكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيير.وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهنَّ شَهْرًا، يَعْني منْ أَجْل ذَلكَ الْحَديث يَعْني قصَّةَ شُرْب الْعَسَل في بَيْت زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتي بَيَانُهُ في سُورَة التَّحْريم.هَذَا نَصُّ الْبُخَاريّ وَمُسْلمٍ جَميعًا، وَهُوَ الصَّحيحُ الَّذي يُعَوَّلُ عَلَيْه، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سوَاه.الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: هَذَا الْحَديثُ بطُوله الَّذي اشْتَمَلَ عَلَيْه كتَابُ الصَّحيح يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَال؛ فَإنَّ فيه أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ غَضبَ عَلَى أَزْوَاجه منْ أَجْل سُؤَالهنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدرُ عَلَيْه، لحَديث جَابرٍ وَلقَوْل عُمَرَ لحَفْصَةَ، لَا تَسْأَلي رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ شَيْئًا، وَسَليني مَا بَدَا لَك.وَسَبَبُ غَيْرَتهنَّ عَلَيْه في أَمْر شُرْب الْعَسَل في بَيْت زَيْنَبَ، لقَوْل ابْن عَبَّاسٍ لعُمَرَ: مَنْ الْمَرْأَتَان منْ أَزْوَاج النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ اللَّتَان تَظَاهَرَتَا عَلَيْه؟ وَقَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا منْكُنَّ}.وَذَلكَ إنَّمَا كَانَ في شُرْب الْعَسَل في بَيْت زَيْنَبَ؛ فَهَذَان قَوْلَان وَقَعَا في هَذَا الْحَديث نَصًّا.وَفيه الْإشَارَةُ لمَا فيهَا بمَا جَاءَ في حَديث جَابرٍ منْ عَدَم قُدْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ عَلَى النَّفَقَة، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بمَا ظَهَرَ لعُمَرَ منْ ضيق حَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لاسيما لَمَا اطَّلَعَ في مَشْرُبَته منْ عَدَم الْمهَاد، وَقلَّة الْوسَاد.وَفيه إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ منْ أَنَّ عَائشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا، بدَليل قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: هُنَّ حَوْلي، كَمَا تَرَى، وَقيَام أَبي بَكْرٍ لعَائشَةَ يَجَأُ في عُنُقهَا، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا أَدَّبَهَا.الْمَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: قوله تعالى: {قُلْ} قَالَ الْجُوَيْنيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوب وَاحْتَجَّ بهَذَا الْحَديث الَّذي سَرَدْنَاهُ آنفًا وَلَا حُجَّةَ فيه؛ أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {قُلْ} يَحْتَملُ الْوُجُوبَ وَالْإبَاحَةَ فَإنْ كَانَ الْمُوجبُ لنُزُول الْآيَة تَخْييرَ اللَّه لَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخرَة فَاخْتَارَ الْآخرَةَ فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلكَ بأَزْوَاجه ليَكُنَّ مَعَهُ في مَنْزلَته وَليَتَخَلَّقْنَ بأَخْلَاقه الشَّريفَة وَليَصُنَّ خَلَوَاته الْكَريمَةَ منْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوب.وَإنْ كَانَ لسُؤَالهنَّ الْإنْفَاقَ فَهُوَ لَفْظُ إبَاحَةٍ فَكَأَنَّهُ قيلَ لَهُ: إنْ ضَاقَ صَدْرُك بسُؤَالهنَّ لَك مَا لَا تُطيقُ فَإنْ شئْت فَخَيّرْهُنَّ وَإنْ شئْت فَاصْبرْ مَعَهُنَّ وَهَذَا بَيّنٌ لَا يَفْتَقرُ إلَى إطْنَابٍ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لأَزْوَاجك} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في الْمُرَاد بالْأَزْوَاج الْمَذْكُورَات؛ فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئذٍ تسْعُ نسْوَةٍ سوَى الْخَيْبَريَّة؛ خَمْسٌ منْ قُرَيْشٍ: عَائشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأَمُّ حَبيبَةَ بنْتُ أَبي سُفْيَانَ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بنْتُ أَبي أُمَيَّةَ بْن الْمُغيرَة، وَسَوْدَةُ بنْتُ زَمْعَةَ بْن قَيْسٍ.وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَفيَّةُ بنْتُ حُيَيّ بْن أَخْطَبَ الْخَيْبَريّةُ، وَمَيْمُونَةُ بنْتُ الْحَارث الْهلَاليَّةُ، وَزَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ الْأَسَديَّةُ، وَجُوَيْريَةُ بنْتُ الْحَارث الْمُصْطَلقيَّةُ.قَالَ ابْنُ شهَابٍ: وَامْرَأَةٌ وَاحدَةٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَذَهَبَتْ، وَكَانَتْ بَدَويَّةً.قَالَ رَبيعَةُ: فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ بنْتُ يَزيدَ الْكلَابيَّةُ؛ اخْتَارَتْ الْفرَاقَ، فَذَهَبَتْ، فَابْتَلَاهَا اللَّهُ بالْجُنُون.وَيُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا تَرَكَهَا تَرْعَى غَنَمًا لَهُ، فَصَارَتْ في طَلَب إحْدَاهُنَّ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَا كَانَ منْ أَمْرهَا إلَى الْيَوْم.وَقيلَ: إنَّهَا كنْديَّةٌ.وَقيلَ: لَمْ يُخَيّرْهَا، وَإنَّمَا اسْتَعَاذَتْ منْهُ فَرَدَّهَا، وَقَالَ: لَقَدْ اسْتَعَذْت بمَعَاذٍ.هَذَا مُنْتَهَى قَوْلهمْ، وَنَحْنُ نُبَيّنُهُ بَيَانًا شَافيًا، وَهيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامسَةُ: فَنَقُولُ: كَانَ للنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَزْوَاجٌ كَثيرَةٌ بَيَّنَّاهَا في شَرْح الصَّحيحَيْن، وَالْحَاضرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ زَوْجَةً، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ، وَبَنَى باثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَمَاتَ عَنْ تسْعٍ، وَذَلكَ مَذْكُورٌ في كتَاب النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
|