الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال عبد الكريم الخطيب: وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإنسان ليطغى أَنْ رَآهُ استغنى}.هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: {عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يعلم}..ومع أن هذه الآية وما بعدها، قد نزلت بعد خمس الآيات التي افتتحت بها السورة بزمن ممتد، إلا أن المناسبة جامعة بينها وبين ما قبلها، وهذا هو السر في سردها في سياقها..فقد.قلنا: إن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإنسان ليطغى أَنْ رَآهُ استغنى}- هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: {عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يعلم}..والسؤال هو: هل أدّى الإنسان حق هذه النعمة التي أنعمها اللّه عليه؟ وهل كان له من علمه هذا الذي تعلمه، نفع له، وللناس معه؟ والجواب على هذا: {كلّا}..فإن هذا العلم الذي فتح على الناس وجوه المنافع، وملأ أيديهم من ثمرات الحياة، بمامكن لهم به من الأرض، وما سخر لهم من قوى الطبيعة- هذا العلم، قد فتنهم سلطانه، وأغرى بعضهم ببعض، فاتخذوا منه سلاحا للبغى والعدوان، والتسلط والقهر..وبهذا طغى الإنسان، وتجبر وظلم، حين رأى نفسه بمنقطع عن الناس، مستغنيا عنهم بجاهه وسلطانه..وهذا مما لا يعيب العلم، ولا ينقص من قدره..فإنه وإن يكن استحدث به الإنسان كثيرا من أدوات الإهلاك والتدمير، فلقد استنبط منه ما لا يحصى من النعم الجليلة التي كشفت للإنسان عن فضل اللّه وإحسانه على الناس، كما أقام من آيات اللّه شواهد ناطقة تشهد بجلاله، وعظمته، وحكمته، وتضع الناس وجها لوجه أمام أسرار هذا الكون، وما تنطوى عليه تلك الأسرار من سعة علم اللّه، وعظمة جلاله وقدرته..وفرق كبير بين الإنسان البدائى، وبين رجل العلم في العصر الحديث، في موقفهما إزاء الوجود، وفى نظرتهما إلى عظمة اللّه وقدرته..فالبدائى ينظر إلى عوالم الوجود بنظر شارد تائه، لا يبعد كثيرا عن نظر بعض الحيوانات أمام مشرق الشمس أو مغربها..أما رجل العصر الحديث فإنه ينفذ بنظره إلى أعماق بعيدة في الموجودات، حيث يطلع على أسرار لانهاية لها، يروعه جلالها، ويبهره نظامها وإحكامها..وشتان بين الإنسان البدائى الذي خاف الطبيعة وظواهرها، فعبدها، وتخاضع بين يديها، وبين الرجل العصرى، الذي أمسك بزمام الطبيعة، وسخرها لخدمته، ونظر إليها نظرة السيد المالك لها..ثم كان عليه بعد هذا أن يبحث عن السيد المالك له هو، ولهذا الوجود كلّه..وهو لابد مستدل بعقله على خالق هذا الوجود وسيده، وذلك هو الإيمان الذي لا زيغ معه ولا ضلال..ولعل هذا يفسر لنا كثرة الأنبياء والرسل في الأزمان السالفة..ثم قلّتهم شيئا فشيئا كلما تقدم الزمن، وتقدم معه العقل الإنسانى، الذي يقوم مقام الرسول في الدعوة إلى اللّه، والهداية إليه.، ثم انقطاع الرسل والأنبياء بخاتم سيد الرسل ونبى الأنبياء، محمد رسول اللّه، بعد أن بلغت الإنسانية رشدها..وقوله تعالى: {إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرجعى}.هو تهديد لهذا الإنسان الذي جحد نعمة اللّه عليه، واتخذ منها أسلحة يحارب بها الفضيلة، ويقطع بها ما أمر اللّه به أن يوصل..إن هذا الإنسان راجع إلى ربه يوما، وسيلقى جزاء بغيه وعدوانه..وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى عَبْداً إِذا صلى}..وهذه صورة لهذا الإنسان الذي طغى، حين رأى نفسه ذاقوة وسلطان..إنه لا يؤمن باللّه، ولا يقف موقف الأولياء منه، بل إنه ليحارب المؤمنين باللّه، ويحول بينهم وبين أداء ما للّه سبحانه وتعالى عليهم من حق..فجرم هذا الطاغية جرم مضاعف..فلا هو يؤمن باللّه، ولا يؤدى حق ربه عليه، ولا يدع المؤمنين يؤدّون حق ربهم عليهم..والاستفهام هنا تعجب من الأمر المستفهم عنه، وتشنيع على فاعله، ودعوة الناس إلى ضبطه وهو قائم على هذا المنكر، متلبس به!! وفى جعل فاصلة الآية الفعل: {ينهى} وفى قطع الفعل {ينهى} عن معموله، وهو {عبدا إذا صلى}- في هذا تشنيع على طغيان هذا الطاغية فإذا..استمع مستمع إلى قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى}- وقع في تفكيره لأول وهلة، أن هذا الإنسان إنما ينهى عن منكر، لأن هذا هو شأن ما ينهى عنه..فإذا فاجأه الخبر بأن ما ينهى عنه هذا الآثم، إنما هو الصلاة والولاء للّه رب العالمين اشتد إنكاره له، وتضاعفت جريمته عنده..والنهى هنا بمعنى المنع، لأن الذي يملك النهى عن فعل الشيء، يملك منع المنهىّ عن فعله، إذ النهى في حقيقته لا يكون إلا من ذى سلطان متمكن ممن ينهاه، ويقدر على منعه مما نهاه عنه.وفى قوله تعالى: {عبدا}- إشارة إلى أن هذا المنهي عن الصلاة، هو في مقام العبودية والولاء لربه..فهو عبد، ولكنه سيد الأسياد جميعا في هذه الدنيا، إذ كان عبد اللّه رب العالمين..وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} {أرأيت} هنا، استفهام إنكارى، بمعنى ماذا ترى من حال هذا الأثيم الذي ينهى عبدا عن الصلاة، ويحول بينه وبينها؟ ثم أرأيت لو أنه كان في موقف آخر غير هذا الموقف، فكان قائما على طريق الهدى، مؤمنا بربه، مواليا له، آمرا بالبر والتقوى بدلا من نهيه عن البر والتقوى؟ فاىّ حاليه كان خيرا له وأهدى سبيلا؟ أحال الضلال، والعمى، والصد عن سبيل اللّه، أم حال الاستقامة والهدى والدعوة إلى اللّه؟ وشتان بين الظلام والنور، والشر والخير، والكفر والإيمان! وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى}.أي ثم ماذا ترى من حال هذا الضال، وقد أبى أن يكون على الهدى أو يأمر بالتقوى، بل كذب بآيات اللّه، وتولى معرضا عمن دعاه إلى اللّه، ورفع لعينيه مصابيح الهدى؟ فأى إنسان هذا؟ وبأى نظر ينظر، وبأى عقل يفكر ويميز بين الخير والشر؟ {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى}؟ أسفه نفسه حتى أنكر أن لهذا الوجود إلها قائما عليه، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟ ألا يخاف بأس اللّه؟ ألا يخشى عقابه؟. اهـ..قال ابن عاشور: {كَلَّا إِنَّ الإنسان ليطغى (6)}استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله.وحرف {كلاّ} ردع وإبطال، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإِبطال والردع، فوجود {كلا} في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} الآية.وحقُّ {كلاّ} أن تقع بعد كلام لإِبطاله والزجر عن مضمونه، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإِبطال وبردع قائله، فابتدئ الكلام بحرف الردع للإِبطال، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يَلي الحرف كما في قول امرئ القيس:رَوى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يَعْفِرُ محمد وجهه (أي يسجد في الصلاة) بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللاتت والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطَأنَّ على رقبته فأتَى رسولَ الله وهو يصلي زعَم لِيطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتّقي بيده.فقيل له: ما لك يا أبا الحَكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضْواً عضواً» قال: فأنزل الله، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: {إن الإنسان ليطغى} الآيات اهـ.وقال الطبري: ذكر أن آية: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن رقبته.فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءاً بقوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}.ووجه الجمع بين الروايتين: أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوّله {أرأيت الذي ينهى} الخ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو: {إن الإنسان ليطغى} إلى {الرجعى}.واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذِكر الصلاة فيها.وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين، فقال بعضهم: إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، ونزل بينهن قرأن آخر ثم نزلت هذه الآيات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها، وقال بعض آخر: ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن.وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عَقبه من الحوادث أن الوحي فتَر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة.وقال السهيلي: كانت المدة سنتين، وفيه بعد.وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحياً ليس من القرآن.وقال السهيلي في (الروض الأنُف): ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإِسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس (أي العصر) وصلاة قبل طلوعها (أي الصبح)، وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإِسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اهـ.فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها.فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن، جريا على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بيِّن، وجريا على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت.فموقع قوله: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} موقع المقدمة لما يَرد بعده من قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله: {لا تطعه} [العلق: 19] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله: {فليدع ناديه} [العلق: 17].والمعنى: أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإنسان.والتعريف في {الإنسان} للجنس، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحسّ من نفسه الاستغناء، واللام مفيدة الاستغراق العرفي، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خلقه أو دينه.وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه.والطغيان: التعاظم والكبر.والاستغناء: شدة الغنى، فالسين والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر.و{وَأنْ رآه} متعلق ب {يطغى} بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع (أنْ) كثير شائع، والتقدير: إنّ الإنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنياً.وعلة هذا الخلق أن الاستغناء تحدث صاحبَه نفسُه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقاً حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لأمةِ سلاححٍ وخدممٍ وأعوان وعُفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأُجراء فهو في عزة عند نفسه.فقد بينت هذه الآية حقيقةً نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس.ونبهت على الحذر من تغلغلها في النفس.وضمير {رآه} المستتر المرفوع على الفاعلية وضميرُه البارز المنصوب على المفعولية كلاهما عائد إلى {الإنسان}، أي أن رأى نفسه استغنى.ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد: أحدهما فاعل، والآخر مفعول في كلام العرب، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: {قال أرأيتك هذا الذي كرمت على} في سورة الإسراء (62).قال الفراء: والعرب تطرح النفس من هذا الجنس (أي جنس أفعال الظن والحسبان) تقول: رأيتُني وحسبتُني، ومتى تَراك خارجاً، ومتى تظُنك خارجاً، وألحقت (رأى) البصرية بـ: (رأى) القلبية عند كثير من النحاة كما في قول قطري بن الفجاءة: ومن النادر قول النّمر بن تَوْلَب: وقرأ الجميع {أن رآه} بألف بعد الهمزة، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن ابن كثير {رأه} بدون ألف بعد الهمزة، قال ابن مجاهد: هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجهاً غريباً عن قنبل.وأُلحق بهذه الأفعال: فعل فقَدَ وفعل عَدِم إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل: فقَدْتُني وعَدِمْتُني.وجملة: {إن إلى ربك الرجعى} معترضة بين المقدمة والمقصد والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي مرجع الطاغي إلى الله، وهذا موعظة وتهديد على سبيل التعريض لمن يسمعه من الطغاة، وتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، أي لا يحزنك طغيان الطاغي فإن مرجعه إلى، ومرجع الطاغي إلى العذاب قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً} [النبأ: 21، 22] وهي موعظة للطاغي بأن غناه لا يدفع عنه الموت، والموت: رجوع إلى الله كقوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6].وفيه معنى آخر وهو أن استغناءه غير حقيقي لأنه مفتقر إلى الله في أهم أموره ولا يدري ماذا يصيِّره إليه ربُّه من العواقب فلا يَزْدَهِ بغنًى زائف في هذه الحياة فيكون: {الرجعى} مستعملاً في مجازه، وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه، وتأكيد الخبر بـ: (إن) مراعى فيه المعنى التعريضي لأن معظم الطغاة ينسون هذه الحقيقة بحيث يُنزَّلون منزلة من ينكرها.و{الرجعى}: بضم الراء مصدر رجع على زنة فُعلى مثل البُشرى.وتقديم {إلى ربك} على {الرجعى} للاهتمام بذلك.وجملة: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى آخرها هي المقصود من الردع الذي أفاده حرف {كلاّ}، فهذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً متصلاً باستئناف جملة: {إن الإنسان ليطغى}.و{الذي ينهى} اتفقوا على أنه أريد به أبو جهل إذ قال قولاً يريد به نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد الحرام فقال في ناديه: لئن رأيت محمداً يصلي في الكعبة لأطَأنَّ على عنقه.فإنه أراد بقوله ذلك أن يبلُغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو تهديد يتضمن النهي عن أن يصلي في المسجد الحرام ولم يروَ أنه نهاه مشافهة.و{أرأيت} كلمة تعجيب من حالٍ، تُقال للذي يعلم أنه رأى حالاً عجيبة.والرؤية علمية، أي أعلمت الذي ينهى عبداً والمستفهم عنه هو ذلك العلم، والمفعول الثاني ل(رأيت) محذوف دل عليه قوله في آخر الجمل {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14].والاستفهام مستعمل في التعجيب لأن الحالة العجيبة من شأنها أن يستفهم عن وقوعها استفهام تحقيق وتثبيت لِنَبئها إذ لا يكاد يصدق به، فاستعمال الاستفهام في التعجيب مجاز مرسل في التركيب.ومجيء الاستفهام في التعجيب كثير نحو {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1].والرؤية علمية، والمعنى: أعجب ما حصل لك من العلم قال الذي ينهى عبداً إذا صلى.ويجوز أن تكون الرؤية بصرية لأنها حكاية أمر وقع في الخارج والخطاب في {أرأيت} لغير معيّن.والمراد بالعبد النبي صلى الله عليه وسلم وإطلاق العبد هنا على معنى الواحد من عباد الله أيّ شَخْصصٍ كما في قوله تعالى: {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد} [الإسراء: 5]، أي رجالاً.وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلّي.فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أوقع، وصيغة المضارع في قوله: {ينهى} لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضى.والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل {ينهى} أي نهاه عن صلاته.{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الهدى (11) أَوْ أَمَرَ بالتقوى (12)}تعجيب آخر من حالٍ مفروض وقوعُه، أي أتظنه ينهى أيضاً عبداً مُتمكناً من الهدى فتَعْجَبَ من نهيه.والتقدير: أرأيته إن كان العبد على الهدى أينهاه عن الهدى، أو إن كان العبد آمراً بالتقوى أينهاه عن ذلك.والمعنى: أن ذلك هو الظن به فيعجّب المخاطب من ذلك لأن من ينهى عن الصلاة وهي قربةٌ إلى الله فقد نهى عن الهدى، ويوشك أن ينهى عن أن يأمر أحد بالتقوى.وجواب الشرط محذوف وأتى بحرف الشرط الذي الغالب فيه عدم الجزم بوقوع فعل الشرط مُجاراة لحال الذي ينهى عبداً.والرؤية هنا علمية، وحُذف مفعولا فعل الرؤية اختصاراً لدلالة {الذي ينهى} [العلق: 9] على المفعول الأول ودلالة {ينهى} على المفعول الثاني في الجملة قبلها.و{على} للاستعلاء المجازي وهو شدّة التمكن من الهدى بحيث يشبه تمكنَ المستعلِي على المكان كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [لقمان: 5].فالضميرَاننِ المستتران في فعلَي {كان على الهدى أو أمر بالتقوى} عائدان إلى {عبداً} وإن كانت الضمائر الحافّة به عائدة إلى {الذي ينهى عبداً إذا صلى} [العلق: 9، 10] فإن السياق يرد كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس: والمفعول الثاني لفعل (رأيتَ) محذوف دل عليه قوله: {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14] أو دل عليه قوله: {ينهى} المتقدم.والتقدير: أرأيته.وجواب: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} محذوف تقديره: أينهاه أيضاً.وفُصِلت جملة: {أرأيت إن كان على الهدى} لوقوعها موقع التكرير لأن فيها تكريرَ التَّعجيب من أحوال عديدة لشخص واحد.{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وتولى (13)}جملة مستأنفة للتهديد والوعيد على التكذيب والتولي، أي إذا كذب بما يُدعى إليه وتولى أتظنه غيرَ عالم بأن الله مطلع عليه.فالمفعول الأول ل(رأيتَ) محذوف وهو ضمير عائد إلى {الذي ينهى} [العلق: 9] والتقدير: أرأيتَه إن كذب... إلى آخره.وجواب {إن كذب وتولى} هو {ألم يعلم بأن الله يرى} كذا قدر صاحب (الكشاف)، ولم يعتبر وجوب اقتران جملة جواب الشرط بالفاء إذا كانت الجملة استفهامية.وصرح الرضي باختيار عدم اشتراط الاقتران بالفاء ونظَّره بقوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأنعام: 47] فأما قول جمهور النحاة والزمخشري في (المفصَّل) فهو وجوب الاقتران بالفاء، وعلى قولهم يتعين تقدير جَواب الشرط بما يدل عليه: {ألم يعلم بأن الله يرى} والتقدير: إن كذب وتولى فالله عالم به، كناية عن توعده، وتكون جملة: {ألم يعلم بأن الله يرى} مستأنفة لإِنكار جهل المكذب بأن الله سيعاقبه، والشرطُ وجوابه سادّان مسدّ المفعول الثاني.وكني بأن الله يرى عن الوعيد بالعقاب.وضمن فعل {يعلم} معنى يوقنْ فلذلك عُدي بالباء.وعلق فعل {أرأيت} هنا عن العمل لوجود الاستفهام في قوله: {ألم يعلم}.والاستفهام إنكاري، أي كان حقه أن يعلم ذلك ويقي نفسه العقاب.وفي قوله: {إن كذب وتولى} إيذان للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أبا جهل سيكذبه حين يدعوه إلى الإِسلام وسيتولى، ووعْد بأن الله ينتصف له منه.وضمير {كذب وتولى} عائد إلى {الذي ينهى عبداً إذا صلى} [العلق: 9، 10]، وقرينة المقام ترجِّع الضمائر إلى مراجعها المختلفة.وحذف مفعول {كذب} لدلالة ما قبله عليه.والتقدير: إن كذبه، أي العبدَ الذي صلى، وبذلك انتظمت الجمل الثلاث في نسبة معانيها إلى الذي ينهى عبداً إذا صلى وإلى العبد الذي صلى، واندفعت عنك ترددات عرضت في التفاسير.وحُذف مفعول {يرى} ليعمّ كل موجود، والمراد بالرؤية المسندة إلى الله تعالى تعلق علمه بالمحسوسات.{كَلَّا لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة (16)}{يرى}، أكّد الردع الأول بحرف الردع الثاني في آخر الجملة وهو المَوْقع الحقيق لِحرف الردع إذْ كان تقديم نظيره في أول الجملة، لِما دعا إليه لمقام من التشويق. اهـ.
|