الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية
.وظائف المجالس التشريعية في الأنظمة الحديثة: للمجالس التشريعية (البرلمان) في الأنظمة القانونية الحديثة ثلاث وظائف رئيسية:1- الوظيفة التشريعية: المراد بها سن القوانين التي تحتاج إليها الدولة حيث تقوم السلطة التنفيذية باقتراح مشروع قانون ما، ثم تقدمه إلى البرلمان، الذي يحيله بدوره إلى لجانه المتخصصة لدراسته، وبعدها يعرض على الهيئة التشريعية مجتمعة لمناقشته، وفي حال إقراره ثم إصداره بقانون يوضع موضع التنفيذ بعد نشره في الجريدة الرسمية وسنأتي قريباً على بيان كيفية سن القوانين وما هي القوانين التي يجب أن يناط استنباطها بهذه المجالس سواءً كانت اقتصادية أم اجتماعية أم غير ذلك.2- الوظيفة السياسية: وهي من أهم وظائف الهيئة التشريعية وتتمثل باختيار الحاكم أو تزكية من يترشح، ومنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها، ثم مراقبة أعمال هذه السلطة، والتحقق من مدى تنفيذها للقوانين الصادرة عنها، ومسائلة الوزراء عن أعمالهم وتصرفاتهم في مجال وزاراتهم.3- الوظيفة المالية: وتتمثل في إقرار الميزانية العامة للدولة ومناقشتها قبل إقرارها، ثم الإشراف على إنفاقها وصرفها، وتشترط بعض الدساتير في بعض الدول موافقة الهيئة التشريعية على القروض العامة والارتباطات المالية التي تربط بها الدولة، هذا ومضمون هذه الوظيفة يرجع في الحقيقة إلى كل من الوظيفة التشريعية والوظيفة السياسية، ذلك إن إصدار الموازنة العامة للدولة يكون بقانون وهذا تشريع، والإشراف على إنفاق هذه الموازنة يعد رقابة وهذه وظيفة سياسية.إذاً فوظيفة وصلاحيات البرلمان أو ما يمكن تسميته بمجلس الشورى يمكن ردها إلى أمرين رئيسين كما يقول د. هاني الطعيمات:الأول: إصدار التشريعات في الدولة.والثاني: مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها على أعمالها.يضاف إلى ذلك أمر ثالث هو اختيار رئيس الدولة بطريق الانتخاب غير المباشر أو تزكيته ثم انتخابه من قبل الشعب بطريق الانتخاب المباشر.وقد سبق أن بينا قصة أهل الشورى الذين اختارهم عمر رضي الله عنه ويستفاد من ذلك جواز تزكية الرئيس أو الخليفة من قبل أهل الشورى أو المجلس النيابي ثم انتخابه من قبل الشعب واعتبار ذلك بمثابة البيعة أو انتخاب من قبل المجلس النيابي بطريق الانتخاب غير المباشر.كما يجوز في النظام الملكي تزكية ولي العهد أو الملك أيضاً، أما الوظيفة التشريعية فسبق أن أوردنا من الأدلة ما يكفي لجواز قيام المجتهدين وأهل التخصص بإصدار تشريعات فيما لا نص فيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما يكفي لتحقيق الصالح العام ضمن ضوابط الاستنباط المعروفة في الفقه الإسلامي، كما سنأتي قريباً على ما نختاره من ضوابط التصويت، غير أننا قبل ذلك نشير إلى الفرق الذي يأتي في الأنظمة البرلمانية (مجالس الشورى) في الدول التي لا تتخذ الإسلام منهجاً لها، في التشريع والدول التي تتخذ الإسلام والتشريع الرباني أساساً حيث يكمن الفرق في أن البرلمانات المعاصرة التي لا تتخذ الإسلام منهجاً لها أن السلطة التشريعية تملك أن تصدر من القوانين ما تشاء دون أن تكون ملتزمة بأي ضوابط أو قيود سوى عدم معارضة ما تسنه من قوانين لأحكام الدستور، والهيئة المختارة لوضع الدستور تملك وضع ما تراه في الدستور عدا مراعاة الاعتبارات والظروف التي تم اختيارهم وتعيينهم فيها، وكثيراً ما تكون هذه الهيئة خاضعة لاعتبارات مفروضة عليها مادياً أو معنوياً، أما الدول التي تأخذ بالإسلام منهجاً فإنها تكون مقيدة بضوابط الشريعة، فالشريعة هديها متكامل وهي صالحة لكل زمان ومكان وهي المصدر الوحيد للتشريع في الدولة الإسلامية وليس لمسلم أو مجلس تشريعي أو حكومة إسلامية أن تسن قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية، وإنما يجب على جميع أفراد أو جماعات البرلمانات والحكومات الالتزام في كل شئون الحياة بكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية في أصولها وفروعها، ويوم تلتزم الأمة بذلك فإنه سيعود للأمة عزها ومجدها الذي فقد بإهمال الشريعة ونسيانها، والأدلة على وجوب اتباع شرع الله وتحكيمه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والعلماء كثيرة ونشير إلى بعض منها..الأدلة على وجوب اتباع الشريعة الإسلامية وعدم جواز مخالفتها: .الدليل الأول: من كتاب الله تعالى: لقد وردت آيات في كتاب الله تعالى كثيرة تدل على وجوب اتباع الشريعة الإسلامية وتطبيقها في جميع شئون البشرية منها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} وقوله جل شأنه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله عَلت كلمته: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا}.قال الإمام ابن كثير رحمه الله هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مما ذكر في أسباب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك. قال والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت.ولقد ذكر هذه الأسباب ونحوها الكثير من المفسرين كالطبري والقرطبي والزمخشري والسيوطي وابن الجوزي وغيرهم.وقال صاحب المنار كل من يتحاكم إلى الطاغوت من دون الله ورسوله ممن يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله فهو راغب عن الحق إلى الباطل، وذلك عين الطاغوت الذي هو بمعنى الطغيان الكثير، وقد قيل للإمام الشيخ محمد عبده: فما تقول في هذه المحاكم الأهلية والقوانين؟ قال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون.وجاء في تفسير روح البيان في تفسير قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية 59 من سورة النساء وما بعدها. إن هذه الآيات فيها دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو خارج من الإسلام سواءً رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، ومن أجل هذا حكم الصحابة بردة الذين منعوا الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم..ثانياً: ما ورد في السنة النبوية: وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» وهذا الحديث قد بين فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجوب العمل بالكتاب والسنة وأن ما خالفهما فهو باطل مردود، وهذا النص من السنة النبوية قد جاء ليقرر القاعدة العامة في البطلان كجزاء لكل تصرف غير شرعي سواءً كان قانوناً أو قراراً أو لائحة أو حكماً، فكل حكم أو قرار يخالف أحكام الشريعة الإسلامية والعدالة الإنسانية فهو باطل بقوة القانون الإسلامي، فالسلطات العامة في الدولة الإسلامية مقيدة في عملها بألا تخرج عن أحكام الشريعة الإسلامية والدستور الإسلامي المستمد منها، فهي ليست سلطات مطلقة بل إن السلطة التشريعية مقيدة فيما تسنه من قوانين بألا يتجاوز إطار الشريعة الإسلامية الغراء.وقد ورد في لفظ حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه»، وهذا الحديث صريح في وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ووجوب الأخذ بهما طريقاً ومرشداً وحكماً في كل شئون الحياة السياسية والاجتماعية الثقافية والتشريعية وفي كل أمور العبادات والمعاملات وفي كل شئون الدنيا والآخرة، وأن ما عدا ما ورد في الأدلة الشرعية فهو مردود مرفوض، ومما يؤكد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما بعث معاذ إلى اليمن قال له: «بما تقضي؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو جهداً. قال: فضرب بيده في صدري وقال: «الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله»، ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وافق على حصر مصادر الحكم في كتاب الله تعالى فإن لم يوجد فيه نص ففي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم يوجد في ذلك نص فإن باب الاجتهاد في الاستنباط يكون مفتوحاً للعلماء ضمن الضوابط والشروط التي حررها علماء الأمة المحكوم به في الحديث على الأدلة الشرعية التي يستنبط القاضي حكم الواقعة منها شائع معروف عند الفقهاء، فإنهم يطلقون المحكوم به على الأدلة الشرعية.قال ابن رشد: المقضي به وهو الكتاب والسنة. وقال ابن فرحون: هو وميارة المقضي به وهو حكم من الكتاب والسنة، وجاء في مراتب الإجماع لابن حزم، ولقد اتفق العلماء على وجوب الحكم بالقرآن والسنة بالإجماع وقد أخرج الحاكم في المستدرك في باب الأحكام من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ألا أيها الناس لا يقبل الله صلاة إمام حكم بغير ما أنزل الله». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وهذه الأحاديث الثابتة تفيد وجوب اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية في كل شئون الحياة، بل أن وجوب الأخذ بهما واستنباط الأحكام منهما هو ما تقتضيه الفطرة السليمة والعقل القويم والمنطق السديد، وتقيده أسباب ومبررات اجتماعية وفطرية منها أن الشريعة الإسلامية هي منهج الله ونظامه الذي وضعه للإنسانية وابتعث به رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو منهج الله الصانع الخالق الذي يمتاز برقيه وكماله وخلوه من الجهل والوهن والضعف وبعده عن الميول والهوى فهو ليس كمنهج البشر الذي لا يخلو من ضعف أو نقص أو محاباة، فمنهج الله لا محاباة فيه لفرد ولا لطبقة ولا لشعب ولا لجنس، لأن الله جل وعلا متجرد متنزه بجلاله عن هذه الأخلاق والآفات الذميمة التي يتصف بها البشر، والخالق للبشر هو الذي يعلم ما جبلت عليه فطرة الإنسان الحقيقية وما تحتاج إليه في حياتها من وسائل وما تسعى إلى تحقيقه من أهداف وما يصلح به شئونها، لذا فهو القادر سبحانه وتعالى على أن يضع لهم النظام الأمثل بدون عناء ومشقة وبدون خوض لتجارب ترهق المجتمع وتكلفه الثمن الباهظ، فالفكر البشري في مختلف العصور لا يخلو من تعارض وتناقض ما لم يكن متمسكاً بمنهاج الحق الذي جاء من عند الله، ما ذلك إلا لأن الأهواء والرغبات والشهوات البشرية تتحكم فيه في كثير من الحالات.ويكفي في العصور القريبة منا مشاهدة تعارض النظامين الشيوعي والرأسمالي وانهيار النظام الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما يعاني العالم الآن من متاعب النظام الرأسمالي من تعاسة وشقاء وحروب وبلاء وانهيار في الأخلاق وسيطرة رءوس الأموال على مقدرات الشعوب دون خضوع لقوانين العدالة الربانية، فتطبيق الشريعة الإسلامية يحمي الشعوب في إطارها الداخلي ويحمي الإنسانية جمعاء على المستوى الخارجي، لأن صفة الالتزام تتوافر للشريعة ليس فقط بالنسبة للأفراد داخل الدولة كما هو الشأن في القانون الوضعي ولكنها ملزمة أيضاً للدولة ذاتها قبل أفراد الشعب وقبل غيرها من الدول في العلاقات الدولية باعتبارها قانوناً إلهياً يسمو فوق البشر جميعاً أفراداً وجماعات ودولاً.ففي الداخل يجعل سلطة المجالس التشريعية والتنفيذية والقضائية محدودة بإطار القواعد الكلية للشريعة الإسلامية، فالمجالس التشريعية لا تملك الخروج على النصوص الشرعية أو تعديلها بالزيادة أو النقصان أو تبديلها، وفي هذا ضمان كبير لعدم سيطرة الأهواء والميول والشهوات سواءً كان من الأحزاب أو الفئات المتغلبة والمتسلطة في المجالس التشريعية وغيرها، فالفئة الحاكمة التي بيدها مقاليد الأمور وتملك الأغلبية في هذه المجالس لا تستطيع أن تخالف الشريعة الإسلامية أو تلغي أو تعدل نصوصها، وفي ذلك حماية للناس من التعسف في استخدام سلطاتها أو الشطط في سن القوانين أو تنفيذها وهذا هو الفرق بين صلاحيات المجالس التشريعية في الدول الإسلامية عن غيرها.فسلطة الأمة في ظل القوانين الوضعية في غير الدول الإسلامية سلطة لا تخلو من العسف والأهواء فيما تمارسه من صلاحيات، فسلطة الأمة في ظل القوانين الوضعية أنها ممثلة في أحزابها، وهذه الأحزاب بما لها من ميول وأهواء وضعف بشري تدخل في تشريعاتها ما يتفق مع تلك الميول والغايات، كما أنها تخضع لتيار الشهوات البشرية الجارف الذي ينخر عظام الأمة ويسارع في انهيار بنيانها، فالزنا والخمر والاحتكار والربا والمقامرة لا تجرّم غالباً في سلطة النظم الوضعية، إلى غير ذلك من الآفات الخطيرة التي تحمى بقوانين تصب في مصالح طبقة أو أشخاص وتضر بالصالح العام، لأنها تعصف بالأخلاق والمبادئ والمثل ولا تقيم للعدل أي وزن أو اعتبار غالباً، ولربما يجد المتتبع أن كثيراً ما تسن تشريعات وضعية في هذا البلد أو تلك من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية للشعوب الأخرى من مناجم ومنابع للنفط بل ولإيجاد سوق لتصريف بضائعها أو نحو ذلك من الأمور التي تسبب التظالم وتنذر بانهيار الحضارات وتوجد مهالك وتكون سبباً في سخط الرب، بل إن هذه الأمم في ظل النظم الوضعية تسن قوانين تعلن الحرب من أجل استعلاءها واستيلاءها على الشعوب الأخرى وتجيز التعذيب للمدنيين من الشيوخ والنساء بلا وازع من الرحمة ولا رادع من ضمير.أما سلطة الأمة في ظل أحكام الشريعة الإسلامية فهي مقيدة بإطار الشريعة الإسلامية ومحكومة بقوانين العدل التي لا تستطيع أن تتجاوزها لأن الله تعالى يأمر بالعدل، ولا تستطيع المجالس التشريعية أن تخرج عن هذا الإطار بل ولا الحكومة ولا الملك ولا رئيس الدولة، فالحاكم لا يستطيع أن يقول لشعبه أن الشريعة معطلة أو أنها في إجازة وراحة أو أن يحكم بغيرها أو أن يسن هذا المجلس أو ذاك قوانين لا تتأطر في إطار الشريعة الإسلامية، ولذلك فإن الدولة الإسلامية بحق دولة قانون لا دولة رجال، وأن مجالسها التشريعية مجالس تسن ما يلبي احتياجات الأمة من التشريع الذي يُستَنبط من الأدلة الشرعية.فالقانون واجب الاتباع إنما هو القانون العادل الذي يتحقق به النفع وتعم به الفائدة ويسير وفق منهاج الحق على هدى من شريعة الله، ومن خصائص الأمة أن تجعل من الشورى مبدأ للتشريع ومنهجاً وسلوكاً يسير عليه علمائها وذوو التخصص من أبنائها، ذلك أنه لما كانت النصوص متناهية والأحداث غير متناهية فمن الضروري أن يحال تفهمها على أولي العلم حتى يطبقوا النصوص ويوجهوا إليها أحداثهم الجديدة لتحكمها النصوص، وهذا هو مسلك القرآن قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ولا اعتراض على القرآن حين اقتصر على كبريات الجرائم والعقوبات ومهمات الأمور وترك الباقي لأولي العلم يبينونه ويفسرونه بعد أن رسم لهم مبادئ كلية لا يجوز لهم الخروج عليها، فما وصلت إليه الديمقراطية في المجالس النيابية وعرف بالسلطة التشريعية ليس جديداً على القرآن إذ قد سيق في تقرير مبدأ الشورى كما أوضح ذلك الدكتور محمد عبدالمنعم الضبعي وقال إنها إذا كانت دساتير العالم الحديث تفصل السلطات وتؤكد استقلالها فإن القرآن أكد هذه المبادئ وأقر سلطة تشريعية خولها في الحقوق أن تنظر في مصالح المسلمين، وأن ما تراه حجة عليهم يلتزمون به، على أن للسلطة التشريعية قواعد يجب أن نلتزم بها لخصها في أربع نقاط:1. أن لا تخالف نصاً في كتاب أو سنة صحيحة.2. أن يتمتع أفراد هذه السلطة بسداد الرأي.3. أن تكون المناقشات في حرية تامة بعيدة عن الجدل، وأن يكون الغرض منها الوصول إلى الحق.4. اتباع الحق ولو انفرد به واحد وألا يناقَش أمرٌ فرغ منه.قلت ويضاف إلى هذه النقاط ما يشير إليه العلماء في إعمال القياس وعدم مخالفة الإجماع وعمومية النص وتجريده وتوافقه مع المبادئ العامة للتشريع القائم على العدل الذي أمر الله به وإلى هذه القواعد يقول الله سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ}.وبيان ذلك: أن الخروج على النص يتنافى مع استجابتهم لربهم، واستقامة السيرة عنوانها إقامتهم للصلاة حيث يعاونون بها على إقامة الدين كله وسداد الرأي والبعد عن المراء والجدال وابتغاء الحق، لأن ما يبحثون فيه هو في شئونهم التي تستقيم به مصالحهم ولذلك قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} واتباع الحق من أمر الله الذي دعاهم أن يستجيبوا له، وما فرغ منه لا تعاد المناقشة فيه بعد تصفيته وإلا كان سفسطة لا يرجى من وراءه خير، وإذا الذي تراه السلطة التشريعية يلتزم الناس به وهو التشريع بأوسع معانيه في الأمم الحديثة، وإذا اصطلح الناس على تسمية الأشياء بأسماء يتعارفون عليها فلا مشاحة في الاصطلاح كأن يصطلح شراح القانون على تسمية ما يقدم به الممثل للشعب في السلطة التشريعية (اقتراحاً بقانون) وما يتقدم به رئيس الدولة (مشروعاً بقانون)، فمن البديهي أن القرآن ترك كثيراً من الأشياء للناس يكيفونها حسب ظروفهم ويبوبونها حسب مصالحهم فليس فيه ما يمنع من أن نعتبر المرحلة التي تزاولها السلطة التشريعية لها خطوتان:الخطوة الأولى ولها مراحل:أ- الاقتراح.ب- التعديل.ج- المناقشة.د- التصديق إن رضيت به الأكثرية.الخطوة الثانية:التنفيذ ويبدأ بالإصدار للنص ويكفي في حجيته إمكان علم الناس به فقد جاء في كتاب الله عن تبليغ رسالة الله {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقوله علت كلمته وعظمت حكمته: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ومعلوم أن التشريع يتدرج، فأعلاه ما وجد فيه نص صريح عليه من كتاب الله تعالى وتليه السنة ثم الإجماع المستند إلى دليل شرعي، وللإجماع شروطه المبسوطة في أصول الفقه، ثم تأتي بقية الأدلة من قياس واستحسان أو استصحاب أو مصالح مرسلة، ثم تأتي الأحكام القضائية التي قضى بها بعض الصحابة رضي الله عنهم أو الاستئناس بالعرف وأقوال المجتهدين وغير ذلك بشرط ألا تجافي أسس التشريع من الحرية والمساواة الذي أحاطهما القرآن بعناية وقررها بقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} ولابد أن تتفق كل التشريعات مع الدستور الأعلى وهو القرآن والدستور المستمد منه ويجب الطعن بعدم دستورية الأحكام المخالفة قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.وبيان ذلك أن الله أمرنا بوجوب الطاعة له ولرسوله وكرر الفعل فيها ليبين أن طاعتهما مستقلة متى ثبت نسبة الحكم إليهما، ثم أمرنا بطاعة أولي الأمر من غير تكرار الفعل {أَطِيعُوا} ليبين أن طاعتهم تقاس بمدى استمساكهم بحكم الله ورسوله أولاً ثم قدم لهم النصح حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} وهذا من صيغ العموم بدليل الشرط والنكرة فيشمل أي تنازع كان فيجب رده إلى الله ورسوله وذلك من شرط الإيمان، ثم بين علة الحكم بالرجوع إلى الله ورسوله فقال: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ابتعث معاذ إلى اليمن قال له: «بم تقضي؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد؟» قال: فبسنة رسول الله. قال: «فإن لم تجد؟» قال: أجتهد رأيي. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله».كما يجب أن يراعي التشريع النظام العام والآداب العامة، ونعني بالنظام العام مجموعة المبادئ العامة الموضوعة لتنظيم سلوك الناس المتضمنة للعدالة التي يقرها الشرع والتي يجب ألا يغفلها أي تشريع، ومما لا شك فيه أن النظام العام هو ما تضمنه القرآن من أسس قال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}.وبيان ذلك أن الله أوجب علينا اتباع ما أنزل إلى الناس وهو القرآن الكريم وقد حوى المبادئ المشروعة التي تنظم سلوك الناس وتضمن أسمى مبادئ العدل ونهانا أن نتبع ما سواه، فهو أقل قيمة وتأثيراً، أما الآداب العامة فهي قواعد الأخلاق التي تتفق مع العقيدة الدينية وإن خالف تقاليد الناس وعاداتهم المرذولة، وهذا هو معنى عمومها ولا عبرة بعادات مرذولة اتفقت عليها بيئة معينة.وقد حوى القرآن مبادئ الآداب العامة وقررها في غير موضع، سواء تعلقت أحكامها بالأحوال الشخصية أو المدنية أو غير ذلك، ونشير إلى جمل مما أورده القرآن الكريم. قال تعالى في سورة النور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو أَبْنَائِهِنَّ أو أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أو نِسَائِهِنَّ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أو التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.وبيان ذلك بإيجاز أن للبيوت حرمة فيجب أن تصان وتحترم ولا يجوز ولوجها دون إذن أهلها، فليس من حق أي زائر أن يخدش حرمتها فعليه أن يقف حتى يؤذن له، ثم ليسلم على من في الدار، وما أحسن التعبير بقوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وهو أدق من الاستئذان أما إن كان البيت غير مسكون وفيه متاع لنا فلا حرج من دخوله ثم أمر المؤمنين بالغض من البصر وليس معناه إغماض العين فتهدده الأخطار بل الوقوف بالبصر عند الشيء الذي أحل الله أن ينظر إليه فالنظرة مقدمة لما ورائها من فاحشة في الغالب ولذا أردف يقول سبحانه: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} والله رقيب عليه يرصد حركاته ويحاسب عليها، ثم أرشد المرأة إلى كل ما يصون كرامتها من وجوب غض البصر وحفظ الفرج كما أمر الرجل وأمرها ألا تظهر من الزينة ما تكون بها فتنة على الناس، ودعاها إلى الوقار والحشمة وكلفها ألا يطلع على زينتها إلا أناس يفهمون شأنها ويحافظون عليها ويغارون لكرامتها وهم ما بين زوج أحلت له أو أب لها أو لزوجها أو ابن لها أو لزوجها أو أخ أو ابن أخ أو ابن أخت أو امرأة مثلها أو خادمتها أو تابع انقطعت صلاته بالنساء أو طفل لا يميز، وكل هؤلاء لا يتجاوزون النظر إلى يسير من بدنها، ورتب على مراعاة هذه الآداب الفوز بالجنة فكل ما خالف النظام العام والآداب العامة فباطل، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}.ولأن إقرار القوانين في المجالس النيابية لا يتم إلا بعد تمحيصها ودراستها والتصويت عليها، لهذا فإننا سنأتي قريباً على ضوابط التصويت وبيان جواز التشريع والتقنين استنباطاً من الأدلة الشرعية.وأنه ليس في ذلك ابتداع أو خروج عن الشرع لما لبيان ذلك من الأثر الطيب، ولأن المبدأ الذي يقوم عليه هذا الأمر هو إلزام الكافة بالقواعد التي يتم استنباطها في مختلف سلطات الدولة، ولأن ذلك لا يخرج الأمة عن الجادة، ولا يمنعها من العمل بكتاب الله وسنة رسوله بل يلزمها به، ولكون مسألة التقنين في المجالس التشريعية إنما ظهرت حديثاً في الشكل والقالب الجديد للدولة العصرية، وإن كان الاستنباط للأحكام والعمل بذلك معروفاً منذ فجر الدولة الإسلامية، غير أن ظهور ذلك في الشكل الحديث قد أظهر انقساماً بين بعض العلماء واختُلف حتى في جواز إطلاق كلمة قانون على ما يستنبط من الأدلة الشرعية من القوانين الإسلامية وتهيبها البعض وأطلق مسمى نظام على القواعد المنتقاة من أحكام الشريعة، وانتقد البعض إطلاق كلمة المُشرّع على من يقوم باستنباط الأحكام وتقنينها، وكل ذلك مما يستدعي الإيضاح والبيان، وذلك لإزاحة ما قد يطرأ على الأمر من لبس وغموض يفت في عضد الأمة ويجعل مجال تطبيق القانون العادل محل تظنن وتردد، لهذا رأينا إيراد بيان ذلك في هذه العجالة وإن كان ذلك على سبيل الإيجاز وبما يفي بالغرض المطلوب بإذن الله.
|